رحلة داخل سوق ربيعة للخضروات: سوق ينبض بالحياة
17 سبتمبر 2025
تشرق الشمس على ما كان في يوم من الأيام مجرد رقعة من الأراضي التي دمرتها الحرب في منطقة ربيعة، في نينوى، لكن اليوم، تفسح هذه الأرض المغبرة المجال لشيء استثنائي، سوق ربيعة للخضروات، حيث يستفيد منه الان أكثر من 500 شخص.
لنبدأ رحلتنا داخل سوق ربيعة للخضروات.
عند مدخل سوق ربيعة، يستقبل نايف صالح أحمد، البالغ من العمر 27 عاماً، الزوار بابتسامة عريضة مليئة بالترحيب. يقول معرفاً بنفسه: "أنا نايف، حارس السوق." ورغم أنه وُلد بضمور عضلي أثّر على حركته، إلا أن عزيمته بقيت قوية لا تتزعزع. دون تردد، سار بجانبنا في السوق، متبادلًا الابتسامة والتحيات مع كل المزارعين الذين تعرّف إليهم منذ أن تولى دوره كحارس للسوق.
يتذكر نايف الأيام المروعة عندما اجتاح تنظيم داعش المنطقة، فتحولت الحياة إلى فوضى بين ليلة وضحاها. يقول: "لم يكن هناك ما يكفي من الطعام، واضطررنا للفرار. لم تكن الحياة آمنة ولا مستقرة." وعندما تحررت المنطقة، عاد نايف ليجد قريته مدمّرة، لكنه قرر المشاركة في إعادة البناء. وفي عام 2022 أصبح حارساً لسوق ربيعة، وهو الدور الذي ما زال يؤديه بفخر هادئ بعد إعادة تأهيل السوق في عام 2024. حيث كان الركام يوماً ما، يقف اليوم مراقباً لسوق نابض بالحياة يعج بالمزارعين والتجار.
اليوم، أصبح السوق المُعاد تأهيله منظماً، مفعماً بالحيوية، ويجذب المزارعين من مختلف أنحاء المنطقة. وبالنسبة لنايف، هو أكثر من مجرد مكان عمل: "هذا السوق ليس مجرد وظيفة. إنه دليل على أنه حتى بعد سنوات من المعاناة، يمكن لمجتمعنا أن ينهض من جديد ويزدهر."
في زاوية أخرى من السوق، التقينا محمود محمد شهاب، البالغ من العمر 22 عاماً من ربيعة، والذي يعمل اليوم حمالاً في السوق. عندما اجتاح داعش قريته، اضطر محمود وعائلته إلى الفرار نحو منطقة بادوش هرباً من القصف وانعدام الأمن، لكن الحياة هناك لم تكن أفضل حالاً. يقول متذكراً: "حتى في بادوش، لم يكن هناك ما يكفي من الطعام أو العمل. كانت الحياة صعبة للغاية".
ولم تستطع العائلة تحمّل المشقة طويلاً، فانتقلت إلى مخيم حيث عاشت لأشهر معتمدة على المساعدات الإنسانية. يتذكر محمود تلك الأيام قائلاً: "في المخيم كنا نعتمد على الآخرين في كل شيء. لم يكن لدينا مصدر دخل، وكان المستقبل مجهولا".
وفي عام 2017، بعد تحرير المنطقة، عادت العائلة إلى ربيعة لتجدها مدمّرة. يقول محمود: "لم يكن هناك عمل، ولا زراعة، ولا تجارة, لا شيء." وفي تلك الأيام الأولى، كان من الصعب العثور حتى على أبسط أشكال العمل. لكن تدريجياً، بدأت الحياة تعود من جديد، حيث أُعيد بناء البيوت، وأُعيد فتح المحال التجارية، وانتعش السوق من جديد. واليوم، يشعر محمود بالفخر لأنه وجد عملاً ثابتاً يعيل به أسرته. وبرغم كل ما مرّ به من معاناة، فإنه يحمل في داخله تفاؤلاً هادئاً وإيماناً بأن المستقبل سيكون أفضل.
يتذكر فارس شريف، البالغ من العمر 25 عاماً، حينما كان السوق مجرد أرضٍ فارغة. يقول: "لم يكن هناك شيء. لا سوق، لا عمل، لا حياة. كان المستقبل يبدو وكأنه قد انتهى".
وكغيره من الاشخاص، اضطر فارس إلى مغادرة ربيعة متجهاً إلى الموصل بحثاً عن الأمان والعمل، لكن فرص العمل هناك كانت نادرة أيضاً.
اليوم، وهو يقف وسط حركة سوق ربيعة النابض بالحياة، يرى مشهداً مختلفاً. فالأسر التي نزحت ذات يوم باتت تكسب قوتها هنا، وأصبح السوق مركزاً للنشاط والأمل. ومع ذلك، ما تزال بعض التحديات قائمة—خاصة نقص فرص العمل الكافية لجميع السكان لكن فارس لازال متفائلاً.
وبالرغم من أنه لا يزال طالباً، يؤمن أن الحل يكمن في الصبر والمثابرة. يقول بثقة هادئة: "حتى مع الصعوبات، سيكون المستقبل أفضل."
يعرب نصير عبد المحسن، أحد التجار القادمين من المحافظات الجنوبية عن سعادته بإعادة تأهيل السوق. حيث يتحدث لنا عن فتره داعش "عندما سيطر داعش على المنطقة، أصبح الوصول إلى هنا مستحيلاً. تحولت رحلاتنا لتسوق الفاكهة والخضار إلى رحلة خطيرة، واضطررنا إلى البحث عن بدائل أقل جودة وأعلى سعراً، كانت تلك الفترة من أصعب ما مررنا به".
أما اليوم، ومع الطرق المعبدة، والمناطق المظللة، والمرافق الحديثة، فقد أصبح السوق مركزاً نشطاً للتجارة. فبعد إعادة تأهيله، أصبح يضم أكشاكاً منظمة، ومطعماً للتجار والعمال، ودورات مياه نظيفة، وجميع الخدمات الأساسية. والأهم من ذلك أنه يوفر منتجات طازجة وعالية الجودة بأسعار مناسبة. يوضح نصير: "يمكننا الآن شراء منتجات عالية الجودة بأسعار مناسبة وبيعها في بغداد وتحقيق ربح."
ويفضل التجار القادمون من المحافظات الجنوبية سوق ربيعة بشكل متزايد، حيث يمكنهم شراء كميات كبيرة من المنتجات الجيدة بأسعار مناسبة. وبالنسبة للكثيرين، أصبح هذا السوق ليس مربحاً فحسب، بل أكثر أماناً وراحة مما كان عليه في الماضي.
وفي ختام حديثه ملوحاً بيده، يقول نصير: "شكراً لكل من ساهم في إعادة بناء هذا السوق. لم يعد مجرد مكان لبيع وشراء الخضروات والفواكه، بل أصبح مصدر رزق لكثير منا." ويأمل أن تستمر هذه الخدمات وتتوسع أكثر في المستقبل.
بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من خلال برنامج بناء القدرة على الصمود عبر تعزيز فرص العمل (BREP)، وبتمويل سخي من الحكومة الألمانية عبر بنك التنمية الألماني KfW، تم إعادة تأهيل سوق الخضار في ربيعة بشكل كامل. وأصبح السوق اليوم مركزاً تجارياً حيوياً يخدم أكثر من 500 شخص من ربيعة والمناطق المحيطة. وبما أنه مجهز بالخدمات الأساسية من طرق معبّدة، ومنصات عرض منظمة، ومرافق خدمية حديثة، فإنه يشكل دليلاً حيّاً على نجاح جهود إعادة الإعمار ودورها في إنعاش الاقتصاد المحلي.